القدس والديمغرافيا الآن

قارب العام الحالي على نهايته، والجراح الفلسطينية ما زالت تنزف، وما زال الجسد الفلسطيني يئن من عسف الاحتلال، ومن وطأة الحصار الظالم المطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً على قطاع غزة، في ظل الصمت الذي بات يشكل بشكل أو بآخر تغطية للاحتلال الصهيوني وجرائمه المقترفة ضد الشعب الفلسطيني.



وكذلك ما زالت الأرض الفلسطينية المحتلة تعاني بدورها من حملات النهب والاستيلاء عليها من قبل سلطات العدو الإسرائيلي، بهدف طرد سكانها الأصليين وتهويدها بالكامل، في وقت تحاصر فيه قوات الاحتلال المدينة المقدسة وتطبق عليها من كافة أطرافها لمنع المواطنين الفلسطينيين من باقي المدن والبلدات والمخيمات من التوجه إليها والصلاة في المسجد الأقصى.

ومع ذلك، يواصل المقدسيون من أبناء المدينة صمودهم الأسطوري، وتشبثهم بالبقاء داخل المدينة وفي قلب أحيائها التي تستهدفها الآن سهام الاستيطان الاحتلالي الصهيوني، حيث ما زال الفلسطينيون يشكلون حتى اللحظة الراهنة الأكثرية العددية من السكان داخل وعلى حدود القدس الكبرى، بعد سنوات طويلة من ليل الاحتلال.

وبالرغم من عمليات التطفيش والمضايقات الإسرائيلية المتواصلة لدفع السكان العرب إلى مغادرة المدينة المقدسة، وبالرغم من كل العمليات الاستيطانية التوسعية التهويدية الصهيونية الجائرة في المدينة، إلا أن النمو السكاني للعرب ما زال هو الأعلى في المدينة وعلى حدودها الإدارية.

وبحسب توقعات مؤسسة القدس للدراسات الإسرائيلية في حال استمر الميل الحالي للتزايد السكاني مقارنة بين العرب واليهود، فإن أغلبية عربية ستغدو قائمة فوق أرض المدينة المقدسة كما كانت طوال تاريخها المديد.

ومنذ أربعة عقود، زاد عدد السكان العرب بنسبة 257%، وانتقل عددهم من 68 ألفاً إلى 245 ألفاً حالياً، في حين أن السكان اليهود عرفوا نمواً بلغ 140%، وانتقل عددهم من 200 ألف إلى 475 ألفاً، وجاءت أرقام النمو اليهودية الصهيونية بشكل أساسي كنتاج للهجرة الاستيطانية من الخارج، أكثر منها زيادة طبيعة (أي المواليد ـ الوفيات).

وفي الواقع الراهن، يبلغ عدد سكان مدينة القدس بجزئيها (الشرقي والغربي) حالياً 720 ألف نسمة، بما في ذلك أعداد المستعمرين من المستوطنين اليهود في الأحياء التي بنتها الدولة الصهيونية في الجزء الشرقي من المدينة المحتلة عام 1967. وفي حال تواصل هذا الميل سيشكل العرب نسبة 50% عام 2035، مع نضوب وتراجع نسب الهجرة الاستيطانية اليهودية من الخارج نحو فلسطين المحتلة.

بناء عليه، وفي هذا السياق، ولإحداث تغيير قسري في الأوضاع الديمغرافية السكانية في المدينة المقدسة، كانت سلطات الاحتلال قد صادقت على خطة بناء هائلة للسيطرة الصهيونية على المدينة واستكمال تطويقها بجدار ديمغرافي من عمليات الاستيطان التهويدي.

والخطة، التي تم رصد الأموال اللازمة لانجازها والبالغة نحو 400 مليون دولار، تضمنت كما أقرت «لجنة التخطيط والبناء الإسرائيلية» الصهيونية في بلدية القدس، وتحديداً منذ 10/5/2007، مخططاً استيطانياً لإقامة ثلاثة أحياء يهودية في الجزء الشرقي من المدينة، تتضمن بناء 20 ألف وحدة سكنية لإيواء عدد كبير من المستعمرين اليهود معظمهم من المتدينين، إضافة إلى 500 شقة في وسط الأحياء العربية بين ضاحية أبو ديس والبلدة القديمة بغرض تفتيتها.

كما تتضمن الخطة إياها إقامة مدرسة خاصة لدراسات القدس، وبناء قصر فخم للمحاكم اليهودية وسط المدينة من 11 طابقاً، ونقل كل المكاتب الحكومية ومؤسسات الشرطة الإسرائيلية إليها، وتالياً نقل 10 آلاف موظف إلى مدينة القدس، في عملية متدرجة تستغرق ثماني سنوات.

ومن بين الدوائر والوزارات المتوقع نقلها إلى القدس: الوحدة المركزية للإحصاء، مركز التخطيط الإسرائيلي، وزارة حماية البيئة، مكتب الإعلانات الحكومي، وزارة الزراعة، شرطة "إسرائيل"، وحدة الجريمة الاقتصادية، مأمورية المياه، سلطة تطوير مكانة المرأة، سلطة تبييض الأموال، لجنة الانتخابات للكنيست، مركز لوجستي استخباري، مديرية اقتصاد المياه، وزارة النائب الأول لرئيس الوزراء، كلية الأمن الوطني، وكل ذلك في مجرى تغيير الخريطة الهيكلية الديمغرافية للقدس، خصوصاً في مناطق الولجة جنوب المدينة، والتلة العليا، ومنطقة مطار عطيروت شمال القدس الشرقية.

وفي النتيجة، على ضوء الواقع الحالي في القدس وتواصل عمليات القضم المتتالي لأراضيها لمصلحة التوسع الاستيطاني التهويدي، فإن جدار الصمود البشري والديمغرافي الفلسطيني في المدينة وعلى تخومها المباشرة، ينتظر مهمات فلسطينية وعربية وإسلامية عاجلة، تتطلب التحرك من أجل إنقاذ المدينة المقدسة.

وتقع على عاتق المؤسسات الحقوقية والمنظمات الفاعلة والصليب الأحمر، ضرورة التدخل الفوري لوضع حد للمأساة التي تحل بمدينة القدس جراء تواصل الهجمة الإسرائيلية الشرسة، مع تواصل عمليات الحفريات والهدم. وكذلك ضرورة تدخل منظمة المؤتمر الإسلامي والدول العربية والإسلامية بكل قوة، لوقف هذا الجنون الإسرائيلي ضد الأقصى والمقدسات الإسلامية، فالأقصى والقدس في خطر حقيقي، لأن هناك نية مبيتة للنيل منه من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة.

علي بدوان، صحيفة البيان الإماراتية